قراءات في قاموس الصداقة
حقيقة الصداقة بين الواقع والمثال
بقلم / خالد جوده
عندما قال القدماء أن المستحيلات ثلاثة " الغول والعنقاء والخل الوفي " ، فهل صاغوا بذلك حقيقة ثابتة من حقائق الحياة ؟ ، فلا شك أن لقولهم ظل من الحقيقة ، فالصداقة الحقة تدخل في دائرة الندرة علي أقل تقدير ، إذا جاوزت دائرة المستحيلات كما نصت عبارتهم الأثيرة ، وزاد من صدق تلك الرؤية ما اكتنف زماننا من أثرة وحب للنفس ، والشح بعطائها ، قال تعالي : ( وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ، في هذا الزمن الموغل في المادية ، وجفاء القلوب ، والتكالب حول المصالح أو حتى أشباه المنافع ، لا نجد مكانا للصداقة بمثالها الكريم ، وكما تهوي القلوب وتريد ، ويذكرني هذا بفلسفة الحكيم عندما سأله رجل : كم عدد أصدقائك ؟ ، فأجاب : لا أدري الآن لأن الدنيا مقبلة علي والناس كلهم أصدقائي ، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني ، فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان " ، وكأنه يقول قول الشاعر عندما قال لصديقه :
إن لم تكن لي والزمان شر مبرم فلا خير فيك والزمان ترأي لي
والشاعر الآخر يقول : جزي الله الشدائد خيرا عرفت بها عدوي من صديقي
وأخشي ما أخشاه أنه لا يبقي لهذا الشاعر من أصدقاء بعد بلواه ، فالناس اليوم خلان المال ، فهذا شاعر يعبر عن محنته النفسية قائلا : أري الخلان لما قل مالى وأجحفت النوائب ودعونى
لما أن أغنيت وعاد مالى أراهم - لا أبالك - راجعونى
كأن القوم خلان لمالى وإخوان لما خولت دونى
وعلي نفس النسق تحضرني طرفة رائعة تصور واقع الصداقة في عصرنا، فقد سأل صديق صديقه :إذا كان لديك ستة قصور ، هل تعطينى قصرا منها ؟ فأجاب : بالطبع ، فقال له : وإذا كان لديك ست سيارات ، هل تعطينى سيارة منها ؟ فاجاب بثقة : أكيد ، فسأله : يالك من صديق حقيقى ، واذا كان لديك ستة قمصان ، هل تعطينى قميصا منها ؟ قال : لا ، فأستنكر صاحبه : وكيف تقول لا ؟ لماذا ؟ ، فأجاب : لأن لدى فعلا ستة قمصان !، ولعل للأمر ناحية نفسية من حب النفس وتفضيلها علي الغير ، فالناس يحبون أنفسهم ، فقد أجرت جامعة نيويورك دراسة مفصلة عن المحادثات التليفونية فوجدت أن كلمة " أنا " هى أكثر الكلمات استخداما وقد ترددت 3900 مرة فى 500 مكالمة !.، ويرصد أحد الأدباء محنة زماننا في ندرة الصداقة الحقة : " الصداقة والأصدقاء إنما هي نوع من الزخارف ، وآلات الإحتيال والنفاق ، فذهبت الدهاة بالهداة ، ومات أهل الرأفة بكثرة القساة " ، وبعد فكيف يمكن لنا إذن تجاوز تلك المشكلة حول ندرة الصاقات مع حاجتنا الشديدة إليها ؟! ، الرأي عندي يكون بإتساع مفهوم الصداقة لتشمل الأشياء والمعاني والكتب والناس ( كما نفعل في قاموس الصداقة ) ، ثم نفهم الصداقة فهما صحيحا وهي العطاء للصديق قبل انتظار الأخذ منه ، فقد سمع ( ابن عطاء ) رجلا يقول : " أنا فى طلب صديق منذ ثلاثين سنه فلا أجده ، فقال له : لعلك فى طلب صديق تأخذ منه شيئا ولو طلبت صديقا تعطيه شيئا لوجدت" ،
فهل ياتري نجد الصديق طبقا لهذا الفهم ؟ ربما